كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإني لاختار القوا طاوي الحشى ** محافظة من أن يقال لئيم

وقال قطرب: المقوي من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال ويقال للغني: مقو لقوته على ما يريد، والمعنى: فيها متاعًا ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولاسيما بعد بلوغ هذه الأدلة {باسم} أي: ملتبسًا بذكر اسم {ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان الأعظم.
فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة.
ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى: {العظيم} أي: الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيهًا عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، فالعظيم صفة للإسم أو الرب، والاسم قيل: بمعنى الذات وقيل: زائد أي: فسبح ربك واختلف في (لا) في قوله تعالى: {فلا أقسم} فقال أكثر المفسرين: معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وإنه لقسم} ومثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد:].
والتقدير: ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر؛ ثم ابتدأ قسمًا بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان: ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم: إنها لام الابتداء والأصل: فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم: أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
واختلف أيضًا في معنى قوله عز وجلّ: {بمواقع النجوم} فقال أكثر المفسرين: بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري: ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالًا عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وقال عطاء بن رباح: أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري: وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن: مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة؛ وقال ابن عباس والسدي: المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها؛ وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟
أجيب: بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ {بموقع} حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها {لقرآن} أي: جامع سهل ذو أنواع جليلة {كريم} أي: بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما: الاعتراض بقوله تعالى: {وإنه لقسم} بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى: {لو تعلمون} بين الصفة الموصوف.
تنبيه:
من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملًا على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى: {في كتاب} أي: مكتوب {مكنون} أي: مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ». أراد به المصحف وقوله تعالى: {لا يمسه} خبر بمعنى النهي ولو كان باقيًا على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى: {إلا المطهرون} لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما؛ وقال ابن عادل: والصحيح أنّ المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر»، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف {لا يمسه إلا المطهرون} فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس: {مكنون} محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر: هو اللوح المحفوظ، أي: لقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج].
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي: الزبور وقيل: لا من {لا يمسه} نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان: أحدهما: أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به: إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني: محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين: الملائكة فقط أي: لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل: إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لم يمسسهم سوء} [آل عمران].
ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث: «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم» بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفًا، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهيًا كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى: {صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس].
وقيل: معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي: إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال: المطهرون يعني المتطهرون.
تنبيه:
اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله في أمتعة.
وأجيب عن الأوّل: بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفًا ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتابًا قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصودًا فجاز تغليبًا للمقصود فيه، وعن الثاني: بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين، وعن الثالث: بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه، وعن الرابع: بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.
وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله، وأجيب عنه: بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساويًا له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.
وقوله تعالى: {تنزيل} أي: منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة {من رب العالمين} أي: الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي: القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلًا على اتساع اللغة كقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان].
وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر، وفي ذلك رد على قول من قال: بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.
{أفبهذا الحديث} أي: القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتًا بعد وقت {أنتم مدهنون} أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به، قال ابن برّجان: الأدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا. ه.
قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحدًا يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلًا ورأسًا ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالًا منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا. ه. وجرى ابن المقري في روضه على كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافرًا. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.